الشفاعة في الحديث الشريف:
تقدم الكلام في البحث السابق عن الآيات الشريفة التي تناولت موضوع الشفاعة ، وأما الحديث الشريف ، فمن لاحظ كتب الحديث يقف على مجموعة كبيرة من الروايات الواردة في الشفاعة توجب الإذعان بأنها من الأصول المسلمة في الشريعة الإسلامية، وإليك نماذج منها:
1ـ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (إنما شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)(1).
2ـ عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (ثلاثة يشفعون إلى الله عز وجل فيشفعون: الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء)(2).
3ـ عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) قال: (اللهم صل على محمد وآل محمد، وشرف بنيانه، وعظم برهانه، وثقل ميزانه، وتقبل شفاعته)(3).
4- عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) قال: (لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، واني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي، وهي نائلة من مات منهم لا يشرك بالله شيئا)(4).
5- وعنه (صلى الله عليه وآله) قال : (أعطيت خمسا وأعطيت الشفاعة، فادخرتها لأمتي، فهي لمن لا يشرك بالله)(5).
الشفاعة المطلقة والمحدودة:
تتصور الشفاعة بوجهين:
1- المطلقة: بأن تشمل الشفاعة مطلق العاصي يوم القيامة وإن فعل ما فعل، وهذا أمر مرفوض في منطق العقل والوحي.
2- المحدودة: وهي التي تكون الشفاعة مشروطة بأمور في المشفوع له، هي بشكل مجمل أن لا يقطع الإنسان العاصي جميع علاقاته العبودية مع الله وصلاته الروحية مع أهل الشفعة، وهذا هو القدر المتيقن من آيات وروايات الشفاعة وهو بعد أمر مقبول عقلا.
وبذلك يتضح الجواب عما يشكل على الشفاعة من كونها توجب الجرأة على المعاصي وتحيي روح التمرد في لدى المجرمين، إذ أن ذلك من لوازم الشفاعة المرفوضة وهي المطلقة ، لا المحدودة المقبولة.
الحكمة من الشفاعة:
والحكمة من تشريع الشفاعة هو عين الحكمة من تشريع التوبة التي اتفقت الأمة على صحتها، وهو منع المذنبين عن القنوط من رحمة الله وبعثهم نحو الابتهال والتضرع إلى الله رجاء شمول رحمته إياهم وعودتهم إلى الطريق الصحيح في المجتمع الإسلامي ، فإن العاصي لو اعتقد بأن عصيانه لا يغفر قط ، فلا شك أن ذلك يؤدي إلى حصول حالة نفسية لديه تدفعه إلى أن يتمادى في اقتراف السيئات لأنه يعتقد أن ترك العصيان لا ينفعه في شيء، وهذا بخلاف ما إذا أيقن بأن رجوعه عن المعصية يغير مصيره في الآخرة، فإنه يبعثه الطمأنينة التي تساعده على ترك العصيان والرجوع إلى الطاعة.
وكذلك الحال في الشفاعة، فإذا اعتقد العاصي بأن أولياء الله قد يشفعون في حقه إذا لم ينهمك في المعاصي ولم يبلغ إلى الحد الذي يحرم من الشفاعة، فعند ذلك ربما يحاول تطبيق حياته على شرائط الشفاعة حتى لا يحرمها.
شرائط شمول الشفاعة:
قلنا أن الشفاعة المقبولة عقلا وشرعا هي الشفاعة المقيدة بشروط، وقد عرفت مجمل تلك الشروط، وينبغي لنا الآن أن نذكر أهم تلك الشروط تفصيلا على ما ورد في الآيات و الروايات:
1- عدم الشرك بالله تعالى: قال تعالى (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما )(6)
2- عدم كونه ناصبيا: فعن الإمام الصادق (عليه السلام) انه قال: (إن المؤمن ليشفع لحميمه إلا أن يكون ناصبا، ولو أن ناصبا شفع له كل نبي مرسل وملك مقرب ما شفعوا)(7).
3- عدم الاستخفاف بالصلاة: فعن الإمام الكاظم (عليه السلام)انه قال: (إنه لا ينال شفاعتنا من استخف بالصلاة)( 8 ).
4- عدم التكذيب بشفاعة النبي (صلى الله عليه وآله): فعن الإمام علي بن موسى الرض (عليه السلام) انه قال: (قال أمير المؤمنين عليه السلام: من كذب بشفاعة رسول الله لم تنله)(9).
اثر الشفاعة:
إن الشفاعة عند الأمم يراد منها حط الذنوب ورفع العقاب، وهي كذلك عند الإسلام كما يوضحه قوله (صلى الله عليه وآله): (ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) المتقدم(10).
قال الشيخ المفيد(رحمه الله): (اتفقت الإمامية على أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يشفع يوم القيامة لجماعة من مرتكبي الكبائر من أمته، وأن أمير المؤمنين (عليه السلام) يشفع في أصحاب الذنوب من شيعته، وأن أئمة آل محمد (صلى الله عليه وآله) يشفعون كذلك وينجي الله بشفاعتهم كثيرا من الخاطئين، ووافقهم على شفاعة الرسول (صلى الله عليه وآله) المرجئة سوى ابن شبيب، وجماعة من أصحاب الحديث، وأجمعت المعتزلة على خلاف ذلك وزعمت أن شفاعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) للمطيعين دون العاصين وأنه لا يشفع في مستحق العقاب من الخلق أجمعين)(11).
وقال أبو حفص النسفي: (والشفاعة ثابتة للرسل والأخيار في حق أهل الكبائر بالمستفيض من الأخبار)(12).
هل يجوز طلب الشفاعة؟:
ذهب ابن تيمية وتبعه محمد بن عبد الوهاب - مخالفين الأمة الإسلامية جمعاء - إلى أنه لا يجوز طلب الشفاعة من الأولياء في هذه النشأة ولا يجوز للمؤمن أن يقول: (يا رسول الله اشفع لي يوم القيامة).
وإنما يجوز له أن يقول: (اللهم شفع نبينا محمدا فينا يوم القيامة).
واستدلا على ذلك بوجوه:
منها: أنه من أقسام الشرك، أي الشرك في العبادة، والقائل بهذا الكلام يعبد الولي(13).
والجواب عنه ظاهر، بما تقدم في الأبحاث السابقة في حقيقة الشرك في العبادة، وهي أن يكون الخضوع والتذلل لغيره تعالى باعتقاد أنه إله أو رب، أو أنه مفوض إليه فعل الخالق وتدبيره وشؤونه، لا مطلق الخضوع والتذلل.
ومنها : أن طلب الشفاعة من النبي(صلى الله عليه واله) يشبه عمل عبدة الأصنام في طلبهم الشفاعة من آلهتهم الكاذبة، يقول سبحانه: (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله)(14).
وعلى ذلك فالاستشفاع من غيره سبحانه عبادة لهذا الغير(15).
ويرده أن المعيار في الحكم ليس هو التشابه الظاهر بل هو حقيقة الأعمال والنوايا الباطنة، وإلا لوجب أن يكون السعي بين الصفا والمروة والطواف حول البيت شركا، لقيام المشركين به في الجاهلية، وهؤلاء المشركون كانوا يطلبون الشفاعة من الأوثان باعتقاد أنها آلهة أو أشياء فوض إليها أفعال الله سبحانه من المغفرة والشفاعة.
وأين هذا ممن طلب الشفاعة من الأنبياء والأولياء بما أنهم عباد الله الصالحون، فعطف هذا على ذلك جور في القضاء وعناد في الاستدلال.
3- إن طلب الشفاعة من الميت أمر باطل.
ويرده أن الإشكال ناجم من عدم التعرف على مقام الأولياء في كتاب الله الحكيم، والقرآن يصرح بحياة جموع كثيرة من الشهداء وغيرهم، ولو لم يكن للنبي (صلى الله عليه وآله) حياة فما معنى التسليم عليه في كل صباح ومساء وفي كل صلاة: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته)؟!
والمؤمنون لا يطلبون الشفاعة من أجساد الصالحين وأبدانهم, بل يطلبونها من أرواحهم المقدسة الحية عند الله سبحانه.
والحمد لله رب العالمين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من لا يحضره الفقيه : 3/ 376. 2 الخصال للشيخ الصدوق: باب الثلاثة، الحديث169) 3 الصحيفة السجادية: الدعاء 42 . 4 صحيح البخاري: 8/ 33، صحيح مسلم : 1/ 170. 5 صحيح البخاري: 1/ 42 ، مسند أحمد: 1/ 301. 6 النساء: 48 . 7 ثواب الأعمال للشيخ الصدوق: 251 .
8 الكافي: 3/ 270، 6/ 401. 9 عيون أخبار الرضا(عليه السلام): 2/ 66. 10 سنن أبي داود: 2/ 537، سنن الترمذي: 4/ 45. 11 أوائل المقالات: ص 54. 12 شرح العقائد النسفية: 147. ولاحظ أنوار التنزيل للبيضاوي: 1/ 152، مفاتيح الغيب للرازي: 3/ 56، مجموعة الرسائل الكبرى لابن تيمية: 1/ 403، تفسير ابن كثير: 1/ 309. 13 الهدية السنية: 42 14 يونس: 18. 15 كشف الشبهات لمحمد بن عبد الوهاب: 6.