رابحة الزيرة
بين يدي شهر الله ليس أجمل ولا أشرف من "الحب" قيمة نفرشه في القلب حصير استقبال لشهر الكرم الإلهي، وباب عطاء نفتحه مصراعاً لخدمة عيال الله، ودار تشريفات لتزكية فضائل الأخلاق، مهما امتلأ العالم بالظلم وتعاظمت قوى الشرّ فيه، فهناك كمّ من الحب الإلهي المبثوث في عالمنا والمتناثر حولنا ما يكفي لإعادة التوازن والنظام لعالم بات "كمن يتخبّطه الشيطان من المسّ" لكثرة ما تُبثّ فيه من أفكار متضاربة ومتناقضة وضبابية تفضي إلى فوضى (فكرية) غير خلاّقة، بل إلى تشويش وخلط في المفاهيم فلا يكاد اللبيب يميّز الحق من الباطل.
ليس حب الله لعباده كحب البشر لبعضهم، وإن كان يشبهه من وجه ولكن يختلف عنه من وجوه، أوّلها أن حبه – سبحانه - غير مشروط، فهو يحب عباده كلّهم، حتى عندما نعصيه بل هو الأشوق لعودتنا إلى سكة الهداية، فقد أُثر عن رسول الله قوله: "لله أشدّ فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه، وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدّة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك .. أخطأ من شدّة الفرح".
كما أن محبّة الله لعباده لا يحدّد نتائجها المعادلات الحسابية، بل قد تبدو بعض تلك النتائج خرافية أو مبالغة ساذجة حين يخاطب الله عباده بقوله: "عبدي أنا وحقّك لك محب، فبحقي عليك كن لي محبّاً، فإنّ مثقال خردلة من الحبّ أحبّ إلي من عبادة سبعين سنة بلا حبّ"، فبعض البشر لا تسمح لهم كبرياؤهم أن يعبّروا عن مشاعر الحب التي يكنّونها لأحبتهم، فضلاً عن المبادرة بالتعبير، فضلاً عن القسم للتأكيد على صدق المحبة، فضلاً عن أن يستجدي المحبّة – وهو الغني عنها – لتكون خردلة من الحب أحبّ إليه من عبادة سبعين سنة، ولكننا أكثرْنا من العبادة على حساب المحبة.
المحبة فن، ولكل فنان بصمته، ولو حاول أن يقلّد غيره فقد إبداعه وتفرّده، ولعلّه لهذا السبب تبقى بعض قصص الحبّ الصادقة والغريبة حيّة تُتداول مراراً وتكراراً فلا تُبلى ولا تُملّ لما تحمله من قيمة إنسانية قلّ نظيرها في زمن تحكمه النظرة المادية، والمنفعة الشخصية، وتتحكم قوانين الربح والخسارة في المشاعر الإنسانية .. سأشارككم ها هنا إحدى أصدق قصص الحبّ التي لن أملّها أبداً لما تعبّر عن جمال روح صاحبها ..
يُذكر أن عجوزاً يناهز الثمانين من العمر ذهب المستوصف لإزالة بعض الغرز من إبهامه، فقال للممرضة أنه على عجلة من أمره لأنّ لديه موعداً مهماً في التاسعة، فسألته: هل هو موعد مع الطبيب؟ فقال: لا، ولكني سأذهب دار الرعاية لتناول الإفطار مع زوجتي التي تشكو من مرض ضعف الذاكرة "الزهايمر"، فسألته: ولكن هل ستقلق زوجتك لو تأخّرتَ عن الموعد؟ فأجاب: إنها لم تعد تعرف من أنا، إنها لا تستطيع التعرّف عليّ منذ خمس سنوات مضت"، فسألته مندهشة: "ولا زلت تذهب لتناول الإفطار معها كل صباح على الرغم من أنها لا تعرف من أنت؟"، ابتسم العجوز وقال: "هي لا تعرف من أنا، ولكنّي أعرف من هي"، فسالت الدموع من عينه وانصرف وهو يبتسم!!
هذا عبد من عباد الله أبقى على وثاق الحب بينه وبين من لم تعد تعرفه وفاء للعشرة التي كانت بينهما، فكيف بربّ العباد الذي "يجتبي صغير ما يُتحف به، ويشكر يسير ما يُعمل له، ويشكر على القليل، ويجازي بالجليل" كما أُثر عن الإمام علي بن الحسين (ع).
وحكاية أخرى حصل صاحبها ذو الأربع سنوات على جائزة "أكثر الأطفال حناناً"، حيث لاحظ الطفل أنّ جارهم المسنّ كان جالساً في حديقة منزله يبكي بحرقة بسبب وفاة زوجته، فذهب إلى الجار وجلس في حضنه، وعندما عاد سألته أمه ماذا صنعت؟ قال: لا شيء، سوى أنني ساعدته على البكاء.
فالحب العذري الصادق لا يعرف العمر ولا الجنس، كما أنه لا يُعلَّم ولا يُلقَّن، ولا يحتاج إلى أموال طائلة، ولا إلى وقت ولا جهد، كل ما يحتاجه قلب صافٍ، خالٍ من الأضغان والأحقاد، ووعي به يحسن اختيار من يحب، ووسيلة التعبير عن تلك المحبة، والزمن سيتكفّل بالبقية، وهل الدين إلاّ الحب..
كانت الفتاة الصغيرة تعبر الجسر مع والدها، فخاف الوالد على ابنته من السقوط فطلب منها أن تمسك بيده، ولكنها طلبت منه أن يمسك هو بيدها، فسألها: وما الفرق؟ قالت: لو أمسكت أنا بيدك فيمكن أن تنفلت يدك من يدي فأسقط، ولكن لو أمسكت أنت بيدي فلن تدعها تنفلت منك أبداً.