إن من الطبقات المنحرفة في تأريخ المسلمين، الطبقة التي تسمى بطبقة الغلاة.. فهناك قوم أسرفوا في بغض علي وآل علي، إلى حد القتال وإهدار دمائهم الطاهرة.. وهناك قوم آخرون تجاوزوا بالإعتقاد بهم، بما لم يرضوا به هم صلوات الله وسلامه عليهم.. وهذه هي من لوازم العصمة، والفناء في رضا المولى.. فالإنسان بطبيعته، يحب من يبالغ في حبه، فترى بعض الناس رغم أنه ليست له ملكة من الملكات، أو صفة من الصفات.. وإذا مُدح بتلك الصفة المفقودة، يفرح في ذات قلبه، ويحب مثل هذه السمعة الباطلة.. ولكن أئمتنا -عليهم السلام- وقفوا موقفاً حاسماً وحازماً، من الذين صوّروا الأئمة تصويراً لا يطابق واقعهم.. وإن كان واقعهم واقعاً نورانياً، لا تحيط به عقولنا؛ ولكن جعلوا لأنفسهم حدوداً.. يقول الإمام الصادق عليه السلام: (احذروا على شبابكم الغلاة لا يفسدونهم!.. فإن الغلاة شر الخلق؛ يصغرون عظمة الله، ويدعون الربوبية لعباد الله).. أي أن الذين يبالغون في أوصافنا، وفي احترامنا، وفي تقديسنا.. فهؤلاء هم شر خلق الله.
وهنا نحب أن نسجل ملاحظة وهي: أن كتاب بحار الأنوار، هو كتاب من الكتب المخلدة في التأريخ، وصاحب البحار -وهو المجلسي- لم يؤلف هذا الكتاب ليطرح صحيحاً، وإنما جمع موسوعة روائية، فيه الغث وفيه السمين.. وهو بعد أن ينقل بعض الروايات، يطعن في تلك الرواية فيقول: أنا ذكرتها، ولكن اعتقادي بأن هذه الرواية ضعيفة، وأنتم تأملوا في ذلك!.. فهذا الرجل العظيم إنما ألف هذا الكتاب، ليطرح مادة بين أيدينا.. فيأتي من يأتي ويتمسك برواية من هنا أو هناك، ليشنّع على الطائفة الإمامية.. وهذا ليس من الإنصاف أبداً، فالرجل لم يدّعِ بأنه جمع صحيحاً، وإنما جمع مجموعات.. حيث أنه رأى أن هذه الكتب في معرض التلف، فسمع بكتاب أو بمصدر من المصادر في بلاد اليمن -كما ينقل عن حياة هذا الرجل العظيم- فاستعمل قربه من السلطان، وطلب منه هذا الكتاب.. فبعث بوفد إلى اليمن مع الجوائز والعطايا لحاكم تلك المنطقة، ليؤتى بهذا الكتاب الذي استفاد منه العلامة المجلسي في تأليف كتابه.
وقد ذكر العلامة المجلسي -رحمه الله تعالى- وهو الذي جال في روايات أهل البيت -عليهم السلام- مصاديق الغلو، ومنها: أن يكونوا شركاء لله في المعبودية، فيقول: "اعلم أن الغلو في النبي (ص) والأئمة (ع)، إنما يكون: بالقول بألوهيتهم، أو بكونهم شركاء لله تعالى في العبودية، أو في الخلق والرزق.. أو أن الله تعالى حلّ فيهم، أو اتحد بهم.. أو أنهم يعلمون الغيب، بغير وحي أو إلهام من الله تعالى".. وهذا لا يمكن أن يتفوّه به مسلم قط.. إن البعض عندما يسمع رواية من معصوم في نقل أمر غيبي، يتعجب ويصف الرواية بالرفض، وأن هذه رواية باطلة.. والحال بأننا نعتقد بأن كل علم، وكل غيب، وكل فقه، وكل تفسير خرج من هذه المدرسة، وخرج من هذا البيت الطاهر من البيوت، التي أذن الله فيها أن يرفع فيها اسمه.. إنما هو بوحي وإلهام من الله عز وجل: سواء كان ذلك نقراً في قلوبهم، أو اقتباساً من علوم جدهم المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.. فهم لا يعلمون الغيب، إلا بمقدار ما أطلعهم الله عز وجل على ذلك.
ومن مصاديق الغلو: القول بأن الأئمة كانوا أنبياء -فالذي يعتقد بذلك يدخل في كلام الإمام الصادق عليه السلام: (فإن الغلاة شر خلق الله).. ويأتي في زماننا هذا، زمان الإتصال والإعلام، وزمان تبادل العلم، وإذا بجماعة من الناس تقول: بأن هؤلاء يقولون: خان الأمين، كان من المفروض أن يُبعث علي نبياًً، ولكن الأمين جبرائيل خان هذه الأمانة.. يالها من فرية!.. لا يدري الإنسان أيضحك على قائله؟.. أو يبكي على سخافة عقله؟!..- ولازال الكلام منقولاً عن العلامة المجلسي: "أو بالقول في الأئمة (ع)، أنهم كانوا أنبياء.. أو القول بتناسخ أرواح، بعضهم إلى بعض.. أو القول بأن معرفتهم تغني عن جميع الطاعات، ولا تكليف معها بترك المعاصي" .. فهناك قوم يعوّلون على الاعتقاد بهم، والمبالغة في الاعتقاد بهم، والتوسل بهم، على أن أساس أن هذا يغني عن العمل والطاعة.. فهذه صور من صور الغلو، كما يصورها العلامة.
يقول الشيخ المفيد -رحمه الله- أيضاً في تعريف الغلاة: "الغلو في الغلة: هو التجاوز عن الحد، والخروج عن القصد.... والغلاة من المتظاهرين بالإسلام، هم الذين نسبوا أمير المؤمنين، والأئمة من ذريته (ع)، إلى الأُلوهية والنبوة.. ووصفوهم من الفضل في الدين والدنيا، إلى ما تجاوزوا فيه الحد، وخرجوا عن القصد.. وهم ضُلاّل كفار، حكم فيهم أمير المؤمنين (ع) بالقتل والتحريق بالنار.. وقضت الأئمة (ع) عليهم بالإكفار، والخروج عن الإسلام".. أي أن هؤلاء معدودون في زمرة الكفار، وإن أظهروا الإسلام، وبالغوا في مدح أهل البيت، وإعطائهم من المقام ما لا يرضونه هم.
هذه هي كلمات علمائنا الأبرار، في تقييم هذه النقطة، وفي تعريف الغلاة.. فإذن، لا ينبغي أن يأتي إنسان ليتظاهر بالتحقيق، وينسب إلى الطائفة بعض الكلمات التي يتبرأ منها علماء الطائفة.. ولكل قوم جهال، ولكل قوم من يفرط في السلب أو الإيجاب.. والقرآن الكريم نهى عن الغلو في كتابه عموماً، وإن كان الخطاب بحسب الظاهر لأهل الكتاب، ولكنه درس للجميع.. يقول تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ}.. فالغلو وإن كان في الدين، وإن كان من أجل تصوير رموز الدين تصويراً مبالغاً فيه.. فإن رب العالمين لا يرضى به، وإن كان غلوَاً فيمن يحبهم الله عز وجل.. ولهذا المسيحية انحرفت عن الطريق، عندما نسبوا إلى عيسى، ما لم يأذن به الله سبحانه وتعالى.