الظروف والملابسات:
بدأت الاستعدادات للهجرة منذ اللحظات التي أدرك فيها الرسول(ص) أنَّ مكة لا تصلح لقيام الدولة، وأنَّها لـم تعد ساحة خصبة للعمل الدعوتي والتبليغي، ولذلك نراه بدأ نشاطاً واسعاً ومشهوداً إثر خروج المسلمين من حصارهم القاسي في شعب أبي طالب. وكان ذلك في ظلّ وضعٍ متردٍّ ومواجهة لـم تهدأ من الدين الجديد الذي رفض بشكل حاسم كلّ قيم الوثنية وأهدافها وتقاليدها ومصالحها. فكانت الطائف ـ كما رأينا ـ التي صدّ، عنها صدّاً قاسياً، وقد ناله فيها من الأذى والمكاره ما لـم يُلحق بسواه، ولكنَّ ذلك لـم يوقف تحرّكاته، بل ربَّما زاده إيماناً بضرورة تبليغ رسالته ونشرها في كلّ أرجاء المعمورة، وواصل اتصاله دون كلل أو ملل بالقبائل الوافدة إلى مكة، مستفيداً من فرصة إقبال النّاس عليها في مواسم الحج، ليعرض عليهم الدين الجديد، طالباً منهم أن يمنحوه الحماية وأن ينصروه، ولكن أيّاً من القبائل (بنو كندة، بنو عامر بن صعصعة، بنو حنيفة... الخ) لـم تمدّ يد المبايعة له ولـم ترحب بهجرته إليها.
يثرب قبل الهجرة:
ويمضي الرسول (ص) في بحثه عن المكان الذي سيُهاجر إليه وأصحابه ليكون منطلقاً للدعوة وبناء الدولة المحتوم. وقبل المضيّ في الحديث عن الهجرة، لا بُدَّ من الإلفات إلى الأوضاع التي كانت تلفُّ كلاً من يثرب الموطن الجديد للمسلمين، ومكة التي لاقوا فيها صنوف العذاب ومورست فيها بحقّهم مختلف أنواع الاضطهادات.
كان أهل يثرب يمتازون عن سائر المناطق العربية بجوارهم لليهود، وألفتهم عقيدة التوحيد، وربَّما حاورهم اليهود في شؤون الأديان وعابوا عليهم عبادتهم للأوثان، وكان كلّما احتدم النقاش واشتدّ الحوار قالت اليهود لهم: "يوشك أن يبعث اللّه نبيّاً فنتبعه، ونقتلكم معه قتل عاد وإرم...".
واللافت أنَّ اليهود كانوا أول من حارب النبيّ (ص) وكفروا به، وقد ندّد القرآن الكريـم بمسلكهم الذي يتناقض مع عقيدة التوحيد، ولما كانوا يخبرون به: {ولما جاءهم كتاب من عند اللّه مصدّق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به}(البقرة:89).
أمّا العرب في يثرب فقد آمنوا بالرسول (ص) وآووه ونصروه ووقفوا إلى جانبه في أشدّ الأوقات صعوبة وأكثرها حراجة، حيثُ قال بعضهم لبعض عندما سمعوا به: "واللّه إنه للنبي الذي توعدكم به يهود، فلا يسبقنكم إليه".
وحلّت في يثرب مشاعر المحبة والتقدير والاحترام، مكان الحقد والكراهية والنفور من الدعوة الجديدة في مكة.
أمّا من الناحية الاقتصاديّة والاجتماعيّة، فقد كانت مكة تعيش في بحبوحة من العيش أمداً طويلاً، آمنة مطمئنة، يأتيها رزقها رغداً من كلّ مكان. وترجع أهمية هذه السعة إلى أمرين أساسيين: مهارة أهلها التجارية، ومكانة الحرم الدينية، ما أدر عليها الخير، فتعالت واستكبرت وساد فيها الترف والمجون،كما أنَّ ذلك أعطاها أهمية سياسيّة تجسّدت في إقامة الأحلاف التي تتزعمها قريش، ما جعلها توسع من نفوذها المعنوي والسياسيّ إلى مختلف القبائل التي تعيش في البادية.
وكان الرسول (ص) يحاول دائماً أن يُقنع أهل مكة بأنَّهم لن يحرموا من هذا العيش الرغد إذا اعتنقوا الإسلام، فأبوا ذلك، وأجابوا: {إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أولم نمكن لهم حرماً آمنا يجبى إليه ثمرات كلّ شيء رزقاً من لدنّا ولكن أكثرهم لا يعلمون}}القصص:57{.
أمّا يثرب فكانت على النقيض من ذلك تعيش أوضاعاً صعبة، حيثُ الشحناء المتأصلة بين أهليها استنـزفت دماءهم، وقطعت أوصالهم. وما زاد الوضع حدّة، دخول اليهود على خطّ الأزمة، فأذكوا هذه الصراعات والحروب التي كان آخرها وقعة (بعاث) التي كان فيها النصر للأوس، وهي المرة الأولى التي يحرز فيها هؤلاء النصر على الخزرج ، وبلغ من حدّة الخصام بين الفريقين، أنَّ كليهما فكّر باستئصال الآخر وإبادته لولا أنّ تدخل أولو النهي بالنصح بالإبقاء على أنفسهم وإخوانهم.
ومن الناحية الاقتصادية، كانت يثرب تعتمد على الزراعة كمورد أساسي، فضلاً عن القيام بتجارة متواضعة إذا ما قيست بالتجارة القرشية، وذلك في ظل سيطرة المال اليهودي على مقوِّمات الحياة فيها، وهذا ما دفع أهالي يثرب إلى أن يأملوا بالإسلام خيراً عندما سمعوا بالرسول(ص) وبدعوته.
أمّا عن اللقاء بين الرسول(ص) وأهالي يثرب، فكان في السنة العاشرة للبعثة، حيث جاء نفرٌ من يثرب إلى مكة قاصداً الحج، فالتقوا به عند العقبة، وعرض عليهم الرسول(ص) مبادئ الإسلام التي تدعو إلى إقامة العدل والمساواة بين النّاس، وإلى توحيد اللّه عزَّ وجلّ، فما كان منهم إلاَّ أن لبّوا الطلب، وأعلنوا إسلامهم، ووعدوا الرسول(ص) بأنَّهم سيرجعون إلى يثرب ويبشرون بدعوته وقالوا: "إنّا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى اللّه أن يجمعهم بك... فإن يجمعهم اللّه عليك فلا رجل أعزّ منك"، وقفلوا عائدين إلى بلدهم، وراحوا يدعون قومهم إلى الإسلام حتّى فشا فيهم، فلم تبقَ دارٌ من دور الأنصار إلاَّ وفيها ذكر رسول اللّه (ص) ، وما ساعد في هؤلاء الرواد والذين أعقبوهم على التحرّك لنشر الدعوة في يثرب، أنَّ الأوس والخزرج في تلك الفترة ـ كما يبدو ـ كانوا أصحاب الكلمة العليا في يثرب.
العقبة الأولى:
وفي السنة التالية، التقى الرسول (ص) وفي المكان نفسه، بوفد ثانٍ من أوس يثرب وخزرجها، اثنا عشر رجلاً من بينهم الستة الذين أسلموا من قبل جاءوا لا ليعلنوا إسلامهم هذه المرة، بل ليبايعوا الرسول (ص) في ما سمي ببيعة العقبة الأولى على الإسلام، على "أن لا يشركوا باللّه شيئاً، ولا يسرقوا، ولا يزنوا، ولا يقتلوا أولادهم، ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم، ولا يعصونه في معروف" ، وأرسل معهم داعيته الشاب مصعب بن عمير لكي يتولّى شؤون الدعوة والتثقيف العقائدي هناك.
ونجح "مصعب" أيّما نجاح في نشر الإسلام وجمع النّاس عليه، واستطاع أن يتخطى الصعاب ويعمل بلا كلل أو ملل، وعندما اقترب موسم الحج من السنة الثانية عشرة للبعثة، غادر مصعب يثرب، وعاد إلى رسول اللّه (ص) بمكة، قبيل الموسم الحافل، واجتمع به وعرض عليه نتائج مساعيه في يثرب، وأنَّه عمّا قريب سيلتقي بوفد كبير منهم تقرّ له عينه ويطمئن به باله.
العقبة الثانية:
انطلق في السنة الثانية من يثرب ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان واجتمع بهم الرسول (ص) في العقبة أيضاً، واتفق معهم سراً أن يوافوه في الثلث الثاني من الليل، حين ينام النّاس وتغفل العيون... يتسللون إليه واحداً واحداً واثنين اثنين، وتمت البيعة الثانية، وعرفت بـ"البيعة الكبرى"، وكانت هذه المرة على الحرب والسلم، ومدّوا إليه أيديهم مصافحين، ومقسمين باللّه الواحد الذي آمنوا به أنَّهم سيحمون الرسول (ص) وينصرونه، وأنَّهم سيرفعون السّلاح مدافعين عنه بوجه أيّ قوّة في الأرض، سوداء كانت أو حمراء، تسعى إلى الفتك به وبدعوته وأصحابه.
وقبل أن يرجعوا اختار الرسول (ص) من بينهم اثني عشر نقيباً، تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس ليشرفوا بأنفسهم على سير الدعوة في يثرب، حيثُ انتشرت دعوة الإسلام هناك وكثر معتنقوه.
وعلمت قريش بما جرى، فاعترضت بعض أهل يثرب الذين باتوا يعرفون بالأنصار: وقالت لأحد المبايعين ممن التقتهم: "يا معشر الخزرج، إنَّه قد بلغنا أنَّكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا، وإنَّه واللّه ما من حيّ من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم"! ولكن أحد اليثربيين حلف باللّه لهم أنه لم تتم مبايعة الرسول(ص) ونفى هذا الأمر، ما دعاهم إلى تصديقه.
ولما كان اليوم التالي تأكدت قريش من صحة الخبر، فنفرت في طلب القوم، فلم يدركوا سوى اثنين: سعد بن عبادة والمنذر بن عمرو، فأماّ المنذر فقد أعجز القوم، وأمّا سعد فأخذوه وأوثقوه رباطاً حتّى أدخلوه مكة وبدأوا بتعذيبه، لكن سرعان ما تذكر اثنين من تجار قريش، كان يجيرهما لدى مرورهما في يثرب ويحميهما ممن كان يريد ظلمهما هناك، فاستجار بهما فهرعا إليه وخلصاه من أيدي القرشيين، فانطلق إلى يثرب ليلحق برفاقه الذين سبقوه إليها".
وبدأت قريش تشدّد من قبضتها على المسلمين في مكة وتزيد من اضطهادهم، بعدما رأت تجاوب أهل يثرب معهم، وأصاب المسلمين جهد شديد جعلت الرسول(ص) يفكر جديّاً بأمر الهجرة إلى يثرب.
دوافع الهجرة:
أصدر الرسول (ص) أوامره إلى أصحابه بالهجرة، مختفين متفرقين قدر الإمكان، وتنادى المسلمون من كلّ مكان هلموا إلى يثرب، فلم تكن الهجرة تخلصاً من الفتنة والاستهزاء فحسب، بل كانت من أجل التعاون على إقامة مجتمع جديد في بلد آمن. وأصبح فرضاً على كلّ مسلم قادر أن يُسهم في بناء هذا الموطن الجديد، وأن يبذل جهده في تحصينه ورفع شأنه، وأصبح ترك المدينة ـ بعد الهجرة إليها ـ نكوصاً عن تكاليف الحقّ، وعن نصرة اللّه ورسوله، فالحياة بها دين، لأنَّ قيام الدين يعتمد على إعزازها.
وفتح القرشيون يوماً أعينهم على مكة التي كانت عامرة بأهلها من المسلمين فإذا هي قد أقفرت، والمحال المؤنسة قد أمحلت، وكعادتهم أنحى القرشيون باللائمة على النبيّ(ص)، وقد تجلّى ذلك بقول أبي جهل للعباس: "هذا من عمل ابن أخيك، فرّق جماعتنا، وشتت أمرنا وقطع بيننا...".
ومن اللافت أنَّ المهاجرين قد خلفوا وراءهم أموالاً ونساءً وبيوتاً وأطفالاً وشيوخاً ومتاعاً كثيراً، ذلك لأنَّ الهدف الذي هاجروا لأجله أغلى بكثير من كلّ متاع الدنيا.