وهي الأصل الرابع من أصول الدين الإسلامي ـ التي يبحث عنها في علم العقائد ـ وهي كبقية الأصول الأخرى لا يتم الإيمان بها إلاّ عن طريق الاعتقاد الناشئ من ا لنظر والبحث فيها، كما في التوحيد والنبوة والمعاد، ولا يجوز فيها تقليد الآخرين .
مفهوم الإمـامة
الإمامة لغة: الرئاسة.
والإمام: هو كل ما يؤتم به إنسانا كان أم كتابا أم غير ذلك, فكل من يتصدى لرئاسة جماعة يسمى (إمام)، سواء كان في طريق الحق أو الباطل، وقد أطلق مصطلح (أئمة الكفر)) في القرآن الكريم في مثل قوله تعالى ((فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ)) (1) على رؤساء الكفار, وأطلق المتشرعة على من يقتدي به المصلون (إمام الجماعة).
المقصود من الإمامة في العقائد: هي الرئاسة الإلهية العامة والشاملة ـ في جميع الأمور وفي كافة المجالات دينية كانت أم دنيويةـ في المجتمع الإنساني.
وإنما ورد ذكر كلمة (الدنيوية) لأجل التأكيد على سعة ميدان الإمامة ومجالها، حيث أن تدبير القضايا الدنيوية للأمة الإسلامية وإدارتها جزء من الدين الإسلامي فلا بد أن يوجد من يقوم بها.
الحـاجة إلى الإمـام
إذا شكلنا أي منظمة أو مؤسسة أو شركة للقيام بعمل معين وفي أي مجال من المجالات، لابد أولاً أن يوضع القانون والضوابط العامة التي تنظم عمل هذه المؤسسة ويتم ذلك عن طريق المؤسسين أو الاستشاريين مثلاً، ولكن هذا لوحده لا يكفي، فلا يمكن أن تعمل هذه المؤسسة بشكل تلقائي بحيث يسري قانونها وضوابطها على منتسبيها,و يتحدد نوع العمل ومسؤولية كل وحد منهم أو ما يراد إنجازه من أعمال من خلال هذه الموسسة من دون حاجة إلى من يديرها ويطبق قانونها وضوابطها، وهذا واضح جداً ولا يشك فيه أحد.
إذن فلأجل ضمان نجاح هذه المؤسسة أ والشركة لابد أن يعين فيها من يديرها ويقوم بشؤونها، وكلما كان هذا المدير على مستوىً عالٍ من الدقة في فهم القوانين وتطبيقها وعلى درجة عالية من الحنكة في الإدارة ومواجهة وحل المشاكل التي قد تصادف العمل كان عمل المؤسسة أكثر نجاحاً وأسرع تطوراً وتقدماً.
وعليه يكون ضمان الحصول على نتائج أكثر ايجابية مرهون باختيار شخص المدير لهذا العمل، وهذا الأمر مما اعتاده العقلاء في مختلف بقاع العالم وفي مختلف الأزمنة فكل صاحب شركة أو مشروع معين تراه دائماً يبحث ابتداءً عن شخص مناسب تتوفر فيه كل أو معظم شروط نجاح عمل هذه الشركة لتعيينه مديراً لها.
وهذا الأمر ينطبق تماماً فيما لو لاحظنا المشاريع الأكبر كمشروع إنشاء الدولة مثلاً، فلأجل إنشاء دولة نموذجية وناجحة وقوية تحتاج أولاً إلى القوانين والأنظمة التامة والى من يدير أمر هذه الدولة ويطبق قوانينها وكلما كان رئيس أو ملك هذه الدولة ذا علم واسع وخبرة كبيرة في الإدارة وتطبيق القوانين بشكل صحيح كلما كانت تلك الدولة انجح أو امتن وأقوى.
وهذه القاعدة شاملة لكل المؤسسات البشرية وفي مختلف الجوانب السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية، فليس بمقدورها أن تستمر في عملها أبدا من دون وجود المؤهل لإدارتها سواء كان شخصاً أو مجموعة، وإلاّ فإنها ستكون عرضة للفشل والاضمحلال في وقت قصير. وهذا أمر واضح لا ريب فيه والتجارب الكثيرة تؤيده.
وإذا نقلنا الكلام إلى الدين ـ كالدين الإسلامي الذي هو موضوع بحثنا ـ فمن الواضح انه اعقد وأوسع المنظومات في العالم، لأنه يعالج جميع جوانب حياة الإنسان الروحية منها كالفكرية الاعتقادية، والعبا دية والسلوكية والأخلاقية أو المادية كالسياسية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها، فهو مُشرع من قبل خالق الإنسان العالم بجميع جوانبه ومشاكله.
هذا بالإضافة إلى العمومية والسعة من حيث الشمول لجميع أبناء البشر لما تقدم من عالمية الدين الإسلامي، والعمومية من حيث الزمن لخاتمية الدين الإسلامي وخلوده.
وعليه فانطباق تلك القاعدة العامة على الدين الإسلامي يكون أوضح وأبلغ، فان ديمومته واستمراره ونجاحه متوقف على وجود من هو مؤهل لإدارة شؤونه من جهة الإحاطة العلمية بجميع معارفه وأحكامه وقوانينه، والحنكة العالية في الدفاع عنه وحمايته، والدقة العالية في تنفيذ أحكامه وقوانينه وتطبيقها في المجتمع البشري من دون أن يصدر منه أدنى غفلة أو تقاعس أو خطأ في العناية به والحفاظ عليه........ هذا من الجهة العقلائية.
وأما من جهة واقع الإسلام:
فانه قد اتضح أن تحقق الهدف من خلق الإنسان ـ وهو بلوغه درجات الكمال اللائقة به كانسان ـ مرتبط بهدايته وتعليمه ما يحتاج إليه من معارف تمكنه من أن يختار أفعاله عن وعي وشعور بواسطة الوحي لان ادراكات البشر عاجزة عن تشخيص الطريق الصحيح للوصول إلى ذلك الكمال، وقد اقتضت الحكمة الإلهية بعثة أنبياء يعلمون البشر طريق السعادة في الدنيا والآخرة وكذلك تربية الأفراد المؤهلين وإيصالهم لآخر مرحلة كمالية يمكنهم الوصول إليها، وكذلك القيام بتنفيذ الأحكام والتشريعات الاجتماعية الدينية فيما لو توفرت الظروف الاجتماعية لذلك هذا من جهة.
ومن جهة أخرى: تقدم في بحث سابق بيان أن الدين الإسلامي دين عالمي وخالد، لا ينسخ ولا يأتي بعد نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) نبي آخر.
ولأجل التوافق بين هذين الأمرين ـ ختم الأديان بالإسلام من جهة ووجود الحاجة إلى التعليم الإلهي الذي يستدعي بعث الأنبياء لانطباق حكمة بعثهم ـ فيما لو كانت الشريعة السماوية الأخيرة مستجيبة لجميع الاحتياجات البشرية، وضمان بقاؤها حتى نهاية العالم.
هذا وقد تقدم أن الله سبحانه وتعالى قد تكفل بحفظ القران الكريم عن كل تغيير وتحريف، ولكن الملاحظ أن الأحكام والتعاليم الإسلامية لا تستفاد جميعها من ظواهر الآيات الكريمة. فمثلا،لا يمكن التعرف من القرآن الكريم على عدد ركعات الصلاة، وطريقة أدائها،وهكذا حال أكثر المسائل الجزئية في الأحكام الشرعية. وليس القرآن الكريم في مقام بيان تفاصيل الأحكام والتشريعات، بل وضع مهمة بيانها على عانق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم),قال تعالى ((وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)) (2), وقوله كذلك ((وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)) (3) من خلال العلم الموهوب له من قبل الله سبحانه وتعالى غير وحي النبوة.وقد قام (صلى الله عليه وآله وسلم) ببيانها وتوضيحها. ولكن الظروف الصعبة التي عاشها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعدم وجود الكفاءة المطلوبة في كثير من الصحابة لتعلم وحمل الدين الإسلامي حالا دون بيان جميع الأحكام والتشريعات والمفاهيم الإسلامية للناس كافة, بل وحتى ما تعلمه الأصحاب لم يكن ليحفظ الدين كما هو عند الله سبحانه وتعالى، فقد اختلفوا في طريقة وضوئه(صلى الله عليه وآله وسلم)، بالرغم من أنها كانت بمرأى من الجميع سنوات طويلة.
إذن، فإذا كانت أحكام الوضوء معرضة للاختلافات والخلاف ـ وهو عمل يحتاجه جميع المسلمين ويمارسونه يوميا، ولم تكن هناك أي دوافع على حدوث التحريف والتغيير العمدي فيه لأن عمل جزئي وتحريفه لا يحقق شيئا من أهداف المحرفين ـ فإن خطر الخطأ والاشتباه في النقل، والتحريفات المتعمدة أشد وأكثر في مجال الأحكام الدقيقة، وخاصة تلك الأحكام والتشريعات التي تصطدم وأهواء بعض الأفراد، وأطماع بعض الجماعات ومصالحهم(4).
ومن خلال هذه الملاحظات يتضح أن الدين الإسلامي إنما يمكن طرحه كدين كامل وشامل يستجيب لكل الاحتياجات ولجميع البشر، وحتى نهاية العالم، فيما لو افترض وجود طريق لحفظه بجميع مفاهيمه وأحكامه وتشريعاته وتوفر إمكانية تطبيقه في المجتمع البشري, ولايمكن تحقيق ذلك إلا من خلال تعيين الخليفة الصالح للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، هذا الخليفة الذي يملك العلم الموهوب من الله ليمكنه بيان الحقائق الدينية بكل أبعادها وخصوصياتها، ويتمتع بملكه العصمة حتى لا يخضع لتأثير الدوافع النفسانية والشيطانية وحتى لا يرتكب التحريف العمدي في الدين، وكذلك يمكنه القيام بالدور التربوي الذي كان يملكه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والأخذ بيدي الأفراد المؤهلين وإيصالهم إلى أسمى درجات الكمال، وكذلك - حين تتوفر الظروف الاجتماعية الملائمة - يتصدى للحكومة وتطبيق الدين كما يريد الله تعالى له أن يطبق بين الناس.
والحاصل: إن ختم النبوة إنما يكون موافقا للحكمة الإلهيةـ التي تقتضي هداية الناس وتوفير كل ما يحتاجونه من علوم ومعارف يتمكنون بواسطتها سلوك طريق الكمال ـ فيما لو اقترن بتعيين الإمام المعصوم، الإمام الذي يمتلك خصائص نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلم) كلها عدا النبوة والرسالة. وبذلك تثبت ضرورة وجود الإمام، وكذلك ضرورة توفره على العلم الموهوب من الله، ومقام العصمة، وكذلك لزوم تعيينه ونصبه من قبل الله تعالى لأنه ـ عز وجل ـ وحده الذي يعرف الشخص الذي أعطاه هذا العلم والعصمة، وهو الذي يملك حق الولاية على عباده أصالة، ويمكنه منح مثل هذا الحق في درجة أدنى لأفراد يتمتعون بشروط معينة.